مجتمع

مارون الراس 2006: هل يعيد التاريخ نفسه في لبنان؟

منذ مطلع أكتوبر تصدرت بلدة مارون الراس اللبنانية عناوين الأخبار مع محاولات القوات الإسرائيلية التوغل باتجاهها، فما أهميتها التكتيكية والعملياتية؟

future نشرت هيئة البث الإسرائيلية صوراً لرفع العلم الإسرائيلي في قرية مارون الراس جنوب لبنان

منذ مطلع شهر أكتوبر 2024، تصدَّرت بلدة مارون الراس اللبنانية -الواقعة على بعد كيلومترين اثنين من الحدود مع فلسطين المحتلة- عناوين الأخبار، مع محاولات القوات البرية الإسرائيلية التوغل باتجاهها في المحور الأوسط من الجبهة اللبنانية.

استبسلَ مقاتلو حزب الله -ولا يزالون- في مواجهة القوات الإسرائيلية التي حاولت الاقتراب من البلدة من محاور مختلفة، ففي الثاني من أكتوبر 2024 دمروا ثلاث دبابات ميركافا بالصواريخ الموجهة، وتصدوا مرتيْن على الأقل لقوات النخبة الإسرائيلية التي حاولت التسلل من الجانب الشرقي للبلدة، وفجر وظهر اليوم التالي، فجّروا أربع عبوات ناسفة في قوات من لواء النخبة جولاني حاولت التقدم هذه المرة من اتجاه الغرب، وسقط عشرون جندياً وضابطاً إسرائيلياً بين قتيل وجريح. وفي الرابع من أكتوبر كثّفوا القصف المدفعي والصاروخي على تجمعات قوات العدو المحتشدة باتجاه مارون الراس، وفجّروا عدداً من العبوات الناسفة في القوات المتقدمة، ولا تزال الاشتباكات جارية لحظة كتابة هذه السطور في غير موقع من الحدود اللبنانية.

أعادت هذه المعارك ذكريات المواجهات البرية البطولية ضد القوات الإسرائيلية في حرب يوليو 2006، التي كانت مارون الراس من أبرز عناوينها، حتى أن قناة الجزيرة عندما أعدت جلسة نقاشية في الذكرى الأولى لتلك الحرب عام 2007، عقدتها على الهواء مباشرة في مارون الراس بحضور عدد من النخب اللبنانية من مختلف المشارب.

 

لماذا مارون الراس؟

لا يحتاج الأمر لخبرة عسكرية واسعة لتبيُّن الأهمية التكتيكية والعملياتية للسيطرة على مارون الراس؛ فتلك البلدة الصغيرة هي مفتاح المحور الأوسط من الجبهة في الجنوب اللبناني، وهي بوابة الوصول إلى مدينة بنت جبيل، التي تُلقّب بعاصمة المقاومة في جنوب لبنان، والتي شهدت إلقاء الراحل حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله خطابه الشهير بعد تحرير الجنوب عام 2000، والمعروف بخطاب النصر والتحرير الذي وصف فيه إسرائيل بأنها أوهن من بيت العنكبوت.

تمتاز مارون الراس بموقعٍ مُشْرِفٍ على ما حولها لكونها تقع على تلال مرتفعة (945 متراً فوق سطح البحر) تكشف منها أجزاء كبيرة من الجنوب اللبناني، ومن شمال فلسطين المحتلة. وتعتبر راس مارون أعلى نقطة في منطقة جنوب نهر الليطاني بالكامل التي عادة ما تكون هدف الاجتياح الإسرائيلي، وبالتالي فهي بالغة الأهمية عسكرياً في أعمال المراقبة والاستطلاع، وفي السيطرة نيرانياً على المناطق القريبة منها من كافة الاتجاهات، وفي تصحيح وتوجيه ضربات المدفعية والقصفات الصاروخية باتجاه مواقع ومستوطنات العدو في شمال فلسطين المحتلة.

وتبلغ مساحة تلك البلدة الصغيرة حجماً والكبيرة تاريخاً، تسعة كيلومترات مربع، ويسكنها قرابة 500 عائلة بعدد سكان يقارب خمسة آلاف نسمة، لكن أغلبهم حالياً لا يقيمون فيها طوال السنة، ويأتون إليها بالأساس للتنزه، وكلهم تقريباً يعتنقون المذهب الشيعي الاثنى عشري، وينتمون سياسياً إمّا لحركة أمل أو لحزب الله، اللذين يعرفان في الساحة اللبنانية بالثنائي الشيعي.

تعرَّض الكثير من سكان مارون الراس للتهجير مرات عديدة منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975؛ حيث اجتاحتها الميليشيات المسيحية الانعزالية التابعة لحزب الكتائب عام 1978، ثم الإسرائيليون عام 1978، ثم مجدداً عام 1982؛ حيث عمل الاحتلال والميليشيات العميلة التابعة له (ميليشيا سعد حداد ثم جيش لبنان الجنوبي) على تهجير معظم سكانها الشيعة المعادين لهم، وحُرّرت القرية مع موجة التحرير التي وقعت في مايو 2000 بعد سنوات من عمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وعملائه في الشريط الحدودي الجنوبي.

تعتبر مارون الراس متنزّهاً طبيعياً يقصده سكان الجنوب اللبناني للاستمتاع بمشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة على جانبي خط الحدود اللبنانية-الفلسطينية، وبعد الدمار الواسع الذي تعرضت له البلدة في حرب يوليو 2006، أنشأت «الهيئة الإيرانية لإعادة إعمار الجنوب اللبناني» حديقة عامة ضخمة في مارون الراس، تُعرف محلياً بين السكان بحديقة إيران، ويمكن للمتنزّهين فيها مشاهدة مروج ورُبا وجبال الأراضي الفلسطينية المحتلة حتى عمق ثمانية إلى 10 كيلومترات، وتحتوي تلك الحديقة على مسجد بُني على طراز قبة الصخرة، ولكن دمره العدو في الحرب الحالية عام 2024.

الفصل الأهم في حرب 2006

إذا راحت مارون الراس، راح نص الجنوب.

— إبراهيم فارس، من سكان مارون الراس، مفتخراً بأهمية بلدته

بعد سبعة أيام من القصف الوحشي براً وبحراً وجواً الذي استهدف الجسور والطرق والبنى التحتية في عموم لبنان، وركّز على المناطق الموالية لحزب الله وأوقع مئات الشهداء وآلاف الجرحى، ودمر العديد من القرى والبلدات في الجنوب اللبناني، وتسبّب في فرار أكثرية سكان الجنوب من منازلهم؛ شرع العدو في محاولات الاجتياح البري ظناً منه بأنه قد أتمّ بنجاح التمهيد النيراني الذي سيجعل المهمة أكثر يُسراً، وأقل كلفة. وكانت مارون الراس الهدف الأول.

بدأ استهداف مارون الراس منذ الساعة الأولى في الحرب يوم 12 يوليو 2006؛ حيث شرعت مروحيات العدو فوراً في قصف المراصد التي أقامتها المقاومة في تلك المنطقة المرتفعة.

يذكر البروفسور والوزير اللبناني السابق، طارق متري، في كتابه «حرب إسرائيل على لبنان 2006» أن إسرائيل اندفعت في عدوان واسع على لبنان بضوء أخضر أمريكي وغربي بل وعربي، بعد ساعات على عملية «الوعد الصادق» التي أسر فيها حزب الله جنديين يوم 12 يوليو 2006، وقُتل ثمانية آخرون. وقد صدرت تصريحات متتابعة تدين ما فعله حزب الله، وتطالبه بتسليم الأسيرين، وتدعو إلى نزع سلاح الحزب، ولم يتطرق معظمها إلى إدانة العدوان الإسرائيلي الواسع.

يذكر متري الذي كان يتولى حقيبة الثقافة في الحكومة اللبنانية إبان الحرب، أن صمود مقاتلي الحزب في المواجهات البرية رغم المجازر ضد المدنيين في أواخر يوليو، حسّن من الموقف التفاوضي للحكومة في مواجهة العدوان، ودفع رئيس الحكومة اللبنانية حينئذ فؤاد السنيورة –وهو منْ معارضي حزب الله- بعد استشارة رئيس مجلس النواب، لإلغاء زيارة كانت مقررة لبيروت في ذلك التوقيت لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، التي كانت تدعم العدوان الإسرائيلي بفجاجة.

في 18 يوليو، وصلت طلائع القوات الإسرائيلية إلى مارون الراس، وكان المظليون الإسرائيليون أول منْ وصل إليها مُحاولين احتلال بعض النقاط الإستراتيجية فيها. تعرّض المظليون لإطلاق نار كثيف، وحاصرهم المقاومون في بعض المنازل، فأرسل العدو بشكل عاجل قوات من وحدة (إيجوز) الخاصة لفك الحصار عن المظليين، وهي الوحدة المدربة خصيصاً على الحرب في الجبهة اللبنانية.

للمفارقة، فإن وحدة قوات النخبة (إيجوز) قد تعرضت في الحرب الحالية، في 2 أكتوبر2024 لكمين مؤلم في بلدة العديسة الحدودية في المحور الشرقي، قُتل فيه على الأقل ستة من جنودها وضباطها، وكاد يُؤسَر أحدهم، وأُصيب العشرات.

تعرضت قوات إيجوز، عام 2006، لقصف صاروخي انطلاقاً من بنت جبيل الواقعة شمال مارون الراس، ثم تعرضت لكمين ناري محكم من قوات حزب الله، قُتل فيه خمسة من أفرادها، وأُصيب عدد آخر، وتحدثت الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية عن أن هذا كان من أصعب المواجهات في تاريخ تلك الوحدة النخبوية.

شهد فجر يوم الأربعاء 19 يوليو كميناً مؤلماً لوحدة «ماجلان» الإسرائيلية الخاصة، التي تسلّلت من مستوطنة أفيفيم القريبة إلى مرتفع الباط، ومنه إلى شرق مارون الراس؛ حيث فجّر مقاتلو حزب الله ثلاث عبوات ناسفة على الأقل في الفصيلة المتسللة، فسقط ثلاثة قتلى و11 جريحاً، ولم يشتبك المقاومون معهم بالأسلحة الرشاشة حتى لا يكشفون مواقعهم، وانتظروا حتى جاءت قوات الإخلاء الطبي، فأمطروها بالرصاص، وجعلوا مهمة الإخلاء عسيرة للغاية.

يذكر مصدر صحفي مقرب من المقاومة أن واحداً فقط من المقاومين أصيب بجراح خطرة، وعُولج منها خلال الأشهر التالية للحرب. وظهر هذا اليوم أيضاً تسلل أحد المقاومين إلى الحدود قرب يارون جنوب غربي مارون الراس، ودمَّر جيب هامر إسرائيلياً بقذيفة «آر بي جي-29»، فقتل جندياً وأصاب ضابطاً.

بعد ظهر اليوم نفسه، تسللت قوة مدرعة إسرائيلية إلى الجهة الغربية من مارون الراس، فتعرضت للمرة الأولى في تلك الحرب للاستهداف بصواريخ الكورنيت الموجهة المضادة للدبابات، فدُمّرَت دبابتان نوجرافة عسكرية وزج العدو بوحدات من المظليين لإجلاء القتلى والجرحى، وإنقاذ بعض قواته المحاصَرة داخل بعض المنازل في مارون الراس، وتعرضت مروحيتا أباتشي للاستهداف بالصواريخ.

دارت المعارك في الأيام التالية في مارون الراس من بيت إلى بيت، وتعرضت مختلف أجزاء البلدة لقصف جوي ومدفعي وحشي، لخلخلة قوات حزب الله المدافعة عنها، وقاد قوات حزب الله المدافعة عن محور مارون الراس - بنت جبيل، القائد الميداني طالب سامي عبد الله (الحاج أبو طالب) وهو من أبرز القادة في حزب الله الذين اغتالهم العدو الصهيوني في الحرب الدائرة حالياً، في 11 يونيو 2024.

تذكر مصادر صحفية مقربة من حزب الله، أنه خلال الشهور السابقة للحرب، نقل القائد العسكري للحزب آنذاك عماد مغنية -اغتيل عام 2008- عشرات المقاتلين والقادة الميدانيين ذوي الخبرة، من مناطق داخلية كالبقاع وبيروت إلى الجبهة جنوباً، لاسيما في محور مارون الراس - بنت جبيل، وأسهم هذا في رفع كفاءة الأداء العسكري للحزب في التصدي للتوغل البري الإسرائيلي.

لم يقتصر الدفاع عن مارون الراس على مقاتلي حزب الله؛ فقد أسهم مقاومون من فصائل أخرى، برز من بينهم اسم هاني علوية، الذي كان من أبرز الكوادر المقاتلين في حركة أمل الشيعية في الجنوب اللبناني، وكان من أبناء مارون الراس، وشارك في شبابه في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي الكبير عام 1978 -عملية الليطاني- وفي أعمال المقاومة ضد الاحتلال بين عامي 1982 و2000، وأصبح مسئول حركة أمل في مارون الراس بعد التحرير في 2000، واستشهد يوم 20 يوليو  2006 في اشتباك مع القوات الإسرائيلية المتوغلة في البلدة.

بنهاية يوم 22 يوليو 2006، أعلن العدو أنه قد سيطرَ على مارون الراس، التي دُمرت معظم مبانيها في القصف والقتال الشديد، وانتقل شمالاً إلى بنت جبيل، عاصمة المقاومة في الجنوب كما تُلقب، ليخوض فيها أسبوعاً من القتال المرير الذي كان من أبرز عناوين تلك الحرب، والذي يستحق منّا أن نُفرد له مساحة خاصة لاحقاً.

لكن بعد يوم 22 يوليو، لم تخمد المقاومة في مارون الراس، واستمر المقاومون الباقون الكامنون فيها في الإغارة على قوات العدو وخطوط إمداده، وسحب العدو قواته من هذا المحور بالكلية يوم 29 يوليو 2006، وركز في الأيام الأخيرة من الحرب على الاختراق من المحور الشرقي، الأقصر مسافة إلى نهر الليطاني.

# لبنان # طوفان الأقصى

وقف إطلاق النار: آمال مرتفعة على اتفاق هش
جورج إبراهيم: أقدم سجين في العالم فداء لفلسطين
«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات

مجتمع